اول مجلة صحراوية مستقلة تأسست 1999

مجلة المستقبل الصحراوي

مجلة المستقبل الصحراوي

هكذا تحدث تشومسكي عن ربيع العرب / محمد عبد الخالق بكري*

كتب بواسطة : futurosahara on 23‏/08‏/2011 | الثلاثاء, أغسطس 23, 2011

يعتبر نعوم تشومسكي من أبرز المفكرين النقديين في عصرنا هذا، ومن القلائل الذين يقرنون النظرية بالعمل، فغالبا ما يأتي مع ذكر صفاته العلمية الرفيعة لفظة ناشط التي يقبلها بغبطة وطيبة خاطر تؤكد انسجام عقله مع وجدانه. الى جانب عمله الاكاديمي كواحد من اكثر علماء اللغويات اثرا في حقله، عرف تشومسكي بموقفه النقدي الجارح وغير الاعتذاري تجاه السياسة الخارجية الامريكية وطموحها لتكريث هيمنتها في عالم احادى القطب. كشف في سيل كتاباته تناقضاتها، وانتبه قبل غيره الى ما اسماه بالليبرالية الجديدة والى اين تقود العالم. كما عرف تشومسكي بعداء لا يلين للاعلام الامريكي (الرسمي) بوسائطه المختلفة من صحف عملاقة وقنوات تلفزيونية ومواقع، فقد اعتبرها ببساطة مصانع للرضاء العام. وبالطبع فقد بادلته الاخيرة العداء. ولكن ما الحيلة مع رجل قال عنه (فهرست الآداب والانسانيات) المنشور عام 1992 ان تشومسكي هو الاكاديمي الاكثر اشارة له في مراجع الدراسات العلمية منذ عام 1980 الى عام 1992. كما هو المرجع الثامن في تكرار الاشارة اليه في كل الازمان، وبالطبع هو الاكثر اشارة اليه من بين المؤلفين الذين لا زالوا على قيد الحياة.الا يجدر بنا ان نرى كيف تحدث تشومسكي عن ربيع العرب؟ في لقائه مع صحيفة فارستي التي تصدر عن جامعة تورنتو، وصف تشومسكي ما يحدث في البلدان العربية بالموجات المعدية ما تستقر واحدة حتى تثور الاخرى في اثرها، ولكن لكل منها جذور تتجاوز الحدث الآني الذي نراه اليوم امام اعيننا. فما حدث في مصر مثلا تعود بدايته الى موجة الاضرابات والاعتصامات العمالية في المحلة الكبرى والقاهرة في الاعوام الماضية وعلى وجه الخصوص التحرك العمالي الجماهيري الواسع وحملة التضامن معه ذاك الذي تم قمعه بشراسة في 6 نيسان/أبريل 2008. 
بل يشير تشومسكي الى ان بداية موجات الربيع العربي لم تكن في تونس بل كانت في الواقع في الصحراء الغربية بالمغرب لكن سرعان ما بادرت السلطات المغربية لقمعها ثم من بعدها جاءت موجة تونس. وصف تشومسكي الانتفاضات العربية بانها حدث بالغ الاهمية ودرامي المجريات، ومن الممكن ان تكون من أكثر الانتفاضات المطالبة بالديمقراطية اهمية في التاريخ القريب. لكنه اشار الى انها وعلى قدر ما تحمل من وعد الا ان المخاطر تتهددها، مخاطر بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي. ولفت تشومسكي نظر محاورته الى ان الانتفاضات تصادف ان انفجرت في اقطار تتمتع باهمية خاصة للولايات المتحدة وللغرب بصفة عامة. فقد وقعت في بلاد غنية بالنفط او بلاد تحكم بدكتاتوريين على ولاء كامل للغرب. اما اذا حدثت الانتفاضة في بلد يتوفر فيه النفط وولاء الحكام للغرب فان الغرب سيدافع عنها للرمق الاخير. واضاف تشومسكي ان هذا ما حدث بالضبط في حالة البحرين والسعودية والكويت. اما عن حالة ليبيا، فقد قال تشومسكي ان النفط متوفر الا ان الدكتاتور ليس على ولاء للغرب، هذا على الرغم من دعم الولايات المتحده وبريطانيا له حتى الامس القريب. كما يؤكد تشومسكي على ان ادعاء الولايات المتحدة والغرب بان التدخل العسكري في ليبيا قد تم على اسس انسانية لانقاذ المدنيين لا يتمتع باي قدر من المصداقية، اذ لم تطالب القوى الغربية بوقـــــف النار من كل الاطـــــراف بل تدخلت الى جانب الثوار واقتصرت فرض وقف النار على النظام وحده. في حوار آخر مع مجلة كندل يدلف تشومسكي الى سياسة الولايات المتحدة تجاه العرب واقليمهم حيث يحكى ان الرئيس الامريكي دوايت ايزنهاور، كما كشفت وثيقة رفعت سريتها ، سأل طاقمه 'لماذا هنالك حملة كراهية واسعة ضدنا من قبل العرب، ليس من قبل الأنظمة بل من قبل الناس في العالم العربي؟' لم تكن الأجابة حاضرة، فقد كلف مجلس الأمن القومي باعداد وثيقة حول السؤال. جاء في الوثيقة 'ان هنالك تصور راسخ لدى اوساط العرب اننا ندعم دكتاتوريين متعطشين للدماء واننا نعيق الديمقراطية والنمو، ونحن نفعل ذلك لاستدامة سيطرتنا على مواردهم، النفط في هذه الحالة'. وتستطرد الوثيقة قائلة ان هذا التصور في واقع الأمر دقيق في صوابه، واضافت ان هذا ما ينبغي علينا الاستمرار في عمله. يقول تشومسكي ان الولايات المتحدة تدعم دكتاتورييها المفضلين الى اللحظة التي لا يمكن بعدها دعمهم، وعندها لا تتردد في ازاحتهم جانبا والعمل بصبر لانقاذ ما يمكن انقاذه من النظام القديم.في حوار ثالث مع (زي نت)، يعود تشومسيكي لسؤال التدخل الدولي بمحرك الدوافع النبيلة ومبدأ (المسؤولية للحماية) ويسأل محاوريه 'هل يرفع مؤلفو هذه المبادىء هذه الشعارات عندما يتعلق الامر بضحاياهم او ضحايا زبائنهم؟ هل طالب اوباما بمناطق محظورة الطيران عندما دك الطيران الاسرائيلي في حملات مجرمة لبنان عام 2006 وقتل ما قتل من المدنيين؟ ام تفاخر اوباما اثناء حملته الانتخابية بمشاركته بتبني قرار لمجلس الشيوخ داعما لغزو لبنان عام 2006 وداعيا معاقبة سورية وايران لاعاقته؟ 
يستفيض تشومسكي في مناقشة مبدأ التدخل الدولي بدعوى حماية المدنيين في حوار شائك لا يسع المجال له لكن جوهره ان التدخل يمكن ان يغلف مطامح الهيمنة، كما ان اثاره قد تقود الى تدهور الاوضاع الى اسوأ مما كانت عليه، كما انه قد يطبق بانتقائية تفضح دوافعه. لكن في ناهية الامر يقر بالتدخل فقط تحت ظل ميثاق الامم المتحدة وما حدده لمجلس الأمن في هذا الشأن، هذا اذا ما تم استيفاء متطلبات عبء الاثبات بارتكاب جرائم حددها الميثاق، ومع ذلك يذكر تشومسكي ان الدول المهيمنة تستثني نفسها حتى من تطبيق هذه المبادئ وغيرها من المعاهدات الدولية.واخيرا عندما طلب محاوروه ان يوضح توقعاته عن مستقبل ليبيا تحت ظل الوضع الراهن، اعترف تشومسكي بصعوبة التنبؤ وقال انه يميل لتحليل جاءت به 'القدس العربي' نشر في 28 آذار/مارس الماضي مفاده ان ما حدث سيقود الى انقسام ليبيا الى دولتين : ليبيا في الشرق تحت سيطرة الـــــثوار، وليبيا في الغرب تحت سيطرة القذافي. تكون الاولى اشبه بامارة غنية بالنـــــفط، قليلة السكان وواقعة تماماً تحت حماية الغرب، بينما تظل الاخرى تحت سيطرة دكتاتورية تتراخى باستمرار قبضتها. ولكنه لا يستبعد ان ينجح الثوار في الاندفاع حتى النهاية لاجثاث الدكتاتورية.هذا بعض ماقاله تشومسكي عن ربيع العرب، وهو في الواقع استمرار لافكاره المستقرة منذ فترة ليست بالقصيرة حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة بصورة عامة وسياستها تجاه العالم العربي بصورة خاصة. لكن الأمر الذي لا يخفى كثافة اطلاعه ومتابعته الدقيقة لقضايا شكلت مشروع حياته. وحيويته الدافقة في الحوار التي حقا تليق بشاب في السادسة والثمانين من العمر.

* 
كاتب سوداني

0 التعليقات: