في الجزء الأول من إعترافات مناضل توقفت عند سؤال المستقبل الذي لم يعد
سؤالا ملحا فقط ، بل أصبح سؤالا موجعا ،مادام يكشف عن فشل " سياسات
" تربية الأمل ، ويعرى حقيقة أن أسباب الصمود ماهي إلا خرائط لتطويع الفراغ
وتطويق الغضب من جهة ، ومن جهة أخرى
التآمر " السياسي " مع أزمنة " إطالة أمد الصراع "
لمراكمة المزيد من الثروة وحصد المصالح والامتيازات للورثة والبطانة .
إن رفع الاحتراس خشية الاستمرار في التآمر على المستقبل عبر تشييد أحلام
بدأت تتآكل تحت وطأة الآفات " السياسية "المتكررة ، مبرره ربما الإصطدام
الفجائي ذات قراءة لأبيات الشاعرة الروسية
( آنا أخماتوفا ) : ( لا ليس أنا ، إنه غيري من يتألم /مثل
هذا الألم ما كان في طاقتي واحتمالي ) ، إن هذا الشعور بألم ( الغير /الآخر
) والذي يعني (الغد/ المستقبل) ليس محاولة لتطويع الألم من أجل معرفته
وتسميته ، ولكن وبالأساس السعي للإفلات من ( فخ الأنا المكتفية بدواعيها
والمحتفية بأسبابها).
لقد حل موجب السؤال عن المستقبل من أجل اجتراح هذه اللحظة المطمورة بمئات
الشعارات ، والتي تتطلب منا جميعا( انقلابا في الوعي ، وتحولا معينا في الرؤية
) ، وعليه ألم يصبح لزاما مواجهة ما نعيشه من " إختناق سياسي
" والإبتعاد السريع عن دائرة ( إجترار الرسمي ) ؟ وذلك بامتلاك شجاعة التصريح أنه لا (
مستقبل للصحراويين في ظل هذا الطغيان المتزايد للإنتماء للقبيلة بدل الإنتماء
للوطن ، وفي ظل هذا الإفساح السياسي للتعبير "الاستقوائي " بالولاء للقبيلة وليس
الولاء للدولة ، وفوق هذا يبقى الخطير هو هذا البروز القوي واللافت لحضور القبيلة
ضمن مؤسسات الدولة ، والأخطر هو شرعنة هذا الحضور في مؤسسات الدولة والترويج له
باعتباره من ضمن مؤسسات الوطن ).
وعليه هل مازال من الصائب الحديث عن دولة
صحراوية ، لأن ( الحديث عن الدولة لا يستقيم إلا في ظل الإنهيار التام للنظام
القبلي التقليدي ) ، هذا الإنهيار الذي يستحيل أن يتحقق مادامت الدولة
الصحراوية ومنذ النشأة ( بلورت وجودها
بالعمل على استيعاب الزعامات المحلية ،
وتعزيز سلطتها القبلية لاستدراجها للقبول
بالحياة في إطار سلطة مركزية ) ، وبمعنى أوضح أن الدولة الصحراوية التيل ( لم تكن ولادتها ولادة طبيعية على أنقاض المجتمع
القبلي التقليدي الصحراوي ، أوجدت نفسها قسرا وليس وفق صيرورة تاريخية ) ،
لذلك كان واجب وجودها الحفاظ على النظام القبلي التقليدي الذي بدونه لا يمكن تحقيق
إجماع وطني مستعجل سيظل محكوما بذهنيات لم تعرف أي وجود تاريخي فعلي للسلطة ،
وتربت على هذا النزوع الفطري للخضوع للروابط القبلية ورفض السلطة .
وتأكيدا لما سبق ، أذكر أني قد كتبت في مقال سابق أن ( القبيلة تقوت
وتسيدت ) ليس لأن الدولة الصحراوية لم تمتلك ( الإرادة السياسية )
، بل لأن الدولة الصحراوية ( دولة
ريعية ) تقوم على
( سياسة المحاصصة وتقوية التوازنات ) ، وتعتمد في بسط سلطتها
المركزية بالقيام بدورها الأساسي والمتمثل في ( التمسك بالقبيلة كوحدة
للتنظيم السياسي وتوزيع المنافع والمكاسب ) .
مثل هذا الوضع الذي قد يبدو للبعض مهددا للدولة ، هو في الواقع ضامن وجودها لأنه بالإضافة إلى
كونه يسهل عليها – أي الدولة – الإستثمار
السياسي للصدامات القبلية ، فهو يعفيها من القيام بدوها المجتمعي ويمنحها فرص
التخلص من كل مسؤولياتها ، فكل المشاكل تحل عبر ( تسويات قبلية ) دونما أي
حاجة للجوء للقضاء ، وطبعا خارج نطاق القانون ، وبعيدا عن النصوص الدستورية . ومن نتائج هذا الوضع الإستكانة ( لراحة
سياسية ) تفتح شهية للحكام لمراكمة الثروة ، وتعطيل التفكير في
تطوير مؤسسات الدولة .
لذلك مخطئ من يعتقد أن الدولة الصحراوية
( قادرة على إخضاع جميع مواطنيها ودون تمييز للإلتزامات القانونية والدستورية
راهنا أو مستقبلا ) ، لأن كل مؤسسات الدولة الصحراوية ( محكومة في عملها بتقديس وتقديم الولاء للقبيلة
على الولاء للدولة ) ، وبما أن القبيلة هي المتحكم في كل مؤسسات الدولة ، وبما
أنها – أي القبيلة- تقوم في جوهرها على تراتبية صارمة فإن الإعتقاد في إمكانية
نشوء ديمقراطية حقيقية ضرب من الخيال وإلغاء لواقع قبلي قوي ومتجذر . وعلى سبيل
المثال فقضية العبيد لا يمكن للدولة الصحراوية الحسم فيها والتخلص النهائي منها
والقضاء عليها ، لأنها بذلك ستكون في مواجهة القبيلة المشرعنة لهذه التراتبية .
والخلاصة أن دولة تتمكن منها القبلية بهذا الشكل وتنتشر في كل مؤسساتها من
المستحيل أن تتحقق فيها المواطنة الحقة ، ومن المستحيل في واقع حمايتها لهذه التراتبية ( أسياد ..عبيد .. حراطين
" العبيد المحررين ..) ، أن نتمكن من الحديث عن مساواة بين المواطنين
الصحراويين .
يتبع