في مقاله عن الانتلجينيسيا الوطنية الصحراوية يكون الأستاذ حمدي الحافظ قد فتح نقاشا جيدا ومهما على صفحات الشبكة عن المثقف الصحراوي المتهم بالغياب؛ نقاش، حتى يكون دسماً، يتطلب مشاركة الجميع فيه لإغنائه للوقوف على موضع الخلل.
الاستعمال الاعتباطي لمفهوم انتيليجنسيا
مصطلح أو مفهوم انتيليجنسيا في القاموس اللاتيني هو " قدرة كبيرة على استيعاب المعرفة؛ قدرة على الفهم العميق؛ قدرة على التنظير.. هي إذن المعرفة العميقة؛ هي الفهم الدقيق والعميق." أما إذا أغلقنا القاموس ووضعناه جانبا، وتحرينا البحث عن المعنى المتداول خارج القاموس؛ المعنى النظري لمصطلح\ مفهوم انتليجنسيا فإننا نحصره في : "القدرة على إنتاج الثقافة وتحليل المعرفة بوعي والمساهمة في تطوريها لخدمة قضايا حياتية." إن عدم توفر هذه الشروط كلها، أو بعضها، في عنصر \ شخص ما قد ينفي عنه صفة\ حالة\ وضع الانضمام إلى المجموعة التي تُسمى في الغرب الانتيليجينسيا.. في اللغة العربية حين لم يجد المعربون والمستعربون مصطلحا عربيا فصيحا شاملا دقيقا يوحي بما يمكن أن توحي به مفردة انتليجينسيا عند الغرب، أخذوها بحذافيرها وحوافرها وحروفها - وكما هي- ووضعوها في كتبهم ومقالاتهم.
إن المصطلح العربي الأقرب لمصطلح " انتليجينسيا" الغربي، كما يراه البعض هو " النخبة المثقفة"؛ أي نخبة الدكاترة، نخبة المثقفين، أساتذة الجامعات، المفكرون والفلاسفة ويمكن أن نضيف إليها المبدعين في شتى حقول المعرفة.
جلد الذات ووخز الضمير كعقاب على عدم معرفة سبب غياب المثقف الصحراوي
الآن نعود لمربط\ مربض الجمل. نعود إلى النقاش المستفحل والمستفيض منذ مدة ليست بالقصيرة حول " دور المثقفين الصحراويين؛ دور "الانتيليجنسيا" الصحراوية؛ دور المتعلمين الصحراويون" -أو ليسميهم كل منا حسب ما شاءت إرادته- في 1) توجيه مجتمعهم التوجيه الطبيعي السلسل الذي يحصل في كل حالة عادية، و 2)ودورهم في النضال أو الكفاح ضد الاحتلال.
إن كل ما كُتب وكل ما سال من حبر، وكل ما قيل في المؤتمرات والندوات وفيالخيام، وكل ما تمت إثارته عن هؤلاء بعمد في الكثير من الأحيان، كان كله جَلدُ لهم بكل أصناف السياط المادية والمعنوية ووخز لضمائرهم بكل أشكال الإبر. وحين نُلطف من حدة وشراسة التعبير يمكن إن نقول أن كل ما قيل\ يقال عن هؤلاء الذين يمكن أن نطلق عليهم بنوع من التعسف ( التفرصي) أحيانا "نخبة مثقفة" كان نوع من العتاب الذي يصل أحيانا إلى ما يشبه التخوين، وهو عتاب يمكن إن يكون اشد وقعا على الذات من جلدها. الآن هناك شبه إجماع الصحراوي تتفق فيه السلطة والمجتمع\ الشعب معا– وهو أمر نادر- على غياب أي دور " للنخبة المثقفة الصحراوية" عن الميدان في الوقت الراهن وعدم تأثيرهم وتفاعلهم في الوضع \ الواقع الحالي الذي يسمه النضال. هذا الإجماع على ما يُسمى "غياب المثقف" جعل الموضوع لا يبقى مختصرا ومقتصرا على "غياب الدور" فقط إنما تشعب وأخذ في السير في مسارب أخرى مثل مناقشة وتحليل العلاقة بين "المثقف والسلطة" و" الصدام التاريخي بين السياسي والمثقف" أو "صراع الأجيال". كل هذه المصطلحات والمفاهيم وهذه النقاشات التي أصبحت قديمة الآن، مجترة ومهترئة في العالم ما كان الصحرايون ليهتموا بها لولا مشاركة الجميع في مد الأصبع وربما الأصابع الخمسة إلى مكان المثقف الفارغ في الصف أو إلى كرسيه الشاغر في مقدمة الفعل الثوري والنضالي والاجتماعي. في الحقيقة المكان فارغ في الصف وفي الكرسي ليس مرده إلى إن الذي كان من المفروض أن يحتل هذا المكان أو الكرسي هو غائب، إنما، وهذا هو الذي يجب إن يتركز عليه الناقش، لا يوجد أصلا من هو مثقف حتى يحضر.
والأطم والادهى وربما الأمَرْ أن حتى المتعلمين والمثقفين الصحراويين أنفسهم أو "الانتيليجينسيا"، وحتى لا يقع عليهم العتب ولا يحسون بالجَلد والوخز، تبرؤوا من تحصيلهم المعرفي والثقافي ووعيهم وبدؤوا، هم كذلك، يعاتبون مع المعاتبين ويجلدون مع الجلادين ويوخزون مع الواخزين. إن الكثير ممن يحسبهم المجتمع على فئة "النخبة المثقفة" شاركوا في جلد ذواتهم وجلد من حولهم للأسف الشديد. فبدل إن يدافع هؤلاء عن الواقع عاريا كما هو ويحللونه ويبررون السبب الرئيس " للغياب"، ويقولون للناس انه ليس لدينا "نخبة مثقفة" بسبب الكثير من الإكراهات حتى نروح نهيل عليها الهيلة هيلتين ونكيل لها الكيل كيلين أو ثلاثة أكيال، وأن عتب وتخوين مثل هذا غير واقعي وغير منطقي ما دمنا نعتب على فئة هي أصلا غير متكونة بيننا في الوقت الراهن.
هل توجد لدينا انتيليجينسا؟ أم مجرد مثقفين ..
كل شخص له الحق في التفكير بصوت مرتفع أو صارخ عن رائه في هذا الموضوع. أنا شخصيا، مثلي مثل الكثيرين على ما أظن أميل، بدون تردد أو تفكير، إلى الاعتقاد الجازم أنه لا توجد انتيليجينسيا صحراوية حاليا بالمفهوم ألأصلي للكلمة. إنه حكم، رغم انه فردي، قد يكون فيه نوع| الكثير من خيبة الأمل والتشاؤم أو- لما لا- التعسف. ورغم ذلك فإن الحكم المذكور( عدم وجود انتيليجنسيا صحراوية في الوقت الراهن) يترك هامش احترام وتقدير وحتى اعتذار لأي أحد ينتمي لهذه الفئة( انتيليجينسيا)، ويتركه حتى لأولئك الذين يتصورون\ يظنون\ يتوهمون أنهم ينتمون إليها. لكن إذا قلنا أنه لا توجد لدينا انتيليجينسيا، فهذا لا يجعلنا ننكر إطلاقا، أننا نتملك الكثير من الطاقات المثقفة، الموهوبة والمتعلمة والذين، ربما، هم الذين يصفهم الناس عندنا خطأ بالمثقفين أو الانتيليجنسيا، وهم كذالك الذين يدور الجدل حولهم ويُتهمون أنهم لا يقومون بدورهم في الوقت الراهن.
يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن للواقع سلطة، وسلطة قوية جدا لها طاحونتها التي لا ترحم ولا تتسامح. فكلنا نعرف إن الواقع الذي يعيشه الصحراويون في اللجوء أو في المناطق المحتلة لم يكن، بسبب شراسته( احتلال ولجوء أحلاهما مر)، ليترك المجتمع الصحراوي يخرج من قمقمه أو من زجاجته كي يُكَوِّنْ انتليجينسيا صحراوية حقة أو قحة. إن الانتليجنسيا، كما يفهمها الغرب هي نتاج دراسة عليا؛ تتطلب إنهاء الدراسات العليا والوصول إلى الدكتوراه أو مراكمة تجربة في حقل ما من المعرفة والإبداع لمدة أربعين سنة مثلا. إذن الذين منا حالوا إن يدرسوا، سواء في المناطق المحتلة أو في اللجوء، حتى ينضمون إلى نخبة الانتليجينسيا كدكاترة أو خريجي اكبر المعاهد، اصطدموا بصخرة الواقع وعادوا على أعقابهم. ففي المناطق المحتلة لم يكن المحتل ليترك الطالب ذي الرائحة الصحراوية، الصحراوي الحقيقي، الصحراوي الأسمر الممانع والمقارع للاحتلال ليصل إلى أبواب الجامعات، وإذا وصل سيتم طرده منها بأسرع وقت. في اللجوء أيضا كان الواقع بالمرصاد للصحراوي: لم يستطيع أي أحد، لأسباب مادية بحتة حسب التفسير الرسمي، أن يجتاز عتبة الليسانس التي لم تعد " تسقي من الماء".
في نفس السياق لا بد أن نستحضر أن المثقف غير مرحب به في واقع مثل واقعنا. وتحاشيا للتعميم، أضرب بعض الأمثلة. مثال أول: فحين كانت الحرب والتحرير هما الأولوية والمقياس كان الناس يسخرون من الذين يريدون مواصلة دراستهم، وكانوا يوصفونهم في بعض الأحيان، وهذه حقيقة مرة، بالجبن والانتهازية، وكنا نقول لهم" يبقينا فاسواقنا"، نحرر أرضنا أولا ومن ثم نتعلم ونحصل على أعلى الشهادات." كان أنبه الطلاب يترك مقاعد الدراسة ويذهب ليستشهد دفاعا عن الوطن." إنها حسنة تُذكر لمثل هؤلاء في التاريخ. مثال ثان: كنا نقول أن دراسة الأدب والفلسفة والقانون واللغات أنها "شُعَبة البغال" لا تفيد الوطن مستقبلا، وكان الطلاب الصحراويين في الخارج يلتحقون بالمعاهد العملية ويتركون المعاهد الأدبية والاجتماعية. وحتى حين انتهت الحرب، منذ أكثر من عقدين من الزمن، بقينا ندور في نفس الحلقة القديمة: ندرس إلى الليسانس ثم نندمج في الحياة العميلة. إن هذه مجموعة من الأسباب التي جعلتنا لا نهتم \ لا نستطيع الوصول إلى طبقة انتليجينسيا.
من جهة أخرى وبسبب خلل في فرز من هو المثقف من غيره أصبحنا- خطأً- نطلق على كل الذين درسوا حتى الثانوية أو لليسانس " مثقفين"، " شباب مثقف" " خريجو الجامعات" في حين أننا إذا أردنا أن نطبق عليهم المقياس أو الرائز لا نستطيع أن نطلق عليهم ما عدا "متعلمين" أو "مثقفين"أو " مؤهلين للعمل في المؤسسات". إن هؤلاء الذين نسميهم مثقفين، حين يعودون إلينا من الخارج، يصدمون بواقع صعب التكيف معه يتميز ب:
1-) عدم وجود مؤسسات تستطيع أن تمتص القدرات الجامحة لهؤلاء المثقفين أو " الخريجون كما نسميهم"؛
2-) تعرضهم لهجمة من طرف لوبي في الهيئة المُسيرة والسلطة أو الجيل السابق وحتى المجتمع يتهمهم أنهم يريدون الركوب على شهاداتهم وثقافتهم كي يستريحوا من مشاق الواقع الصعب للحياة في اللجوء. أي إن المثقف حسب تعبير هذه الفئة هو الذي لا يريد إن يعمل، إنما يريد أن يحصل في اللجوء على السيارة المكيفة والوظيفة الرابحة بمجرد أن يضع أخر سطر في أخر امتحان له في الجامعة. إن تشويه صورة المثقف – إن جاز تسميته بذلك- من طرف لوبي في الهيئة المسيرة، في مجموعة الإطارات، وفي السلطة بصورة عامة، لوبي فاقد الشيء، لوبي متهم من طرف المثقفين أنفسهم أنه غير متعلم ويُسَيَّر بطريقة عشوائية غير مدروسة، أثَّرَ كثيرا على صورة المثقف في أعين المجتمع ككل.
فصورة المثقف الآن في المجتمع الصحراوي البسيط هي " أنه مُنظر بارع ويحاول إن يتفلسف فيما لا يحتاج الفلسفة؛ شخص لا يحب العمل اليدوي، وكمحصلة هو شخص غير مرغوب فيه في مجتمع بسيط لاجئ يريد بالدرجة الأولى المناضل من اجل القضية الوطنية، يريد المعلم، الممرض، الإداري والمقاتل. إن النظرة العامة للمتعلم أو المثقف بصورة أشمل في المجتمع الصحراوي وفي الواقع الذي نعشيه الآن هي أن" مشاكله هي أكثر من فوائده." وأن" أصحاب المحفظة ( الكمبيوتر الآن) لا خير فيهم"و "لو كانت الثقافة تنفع كانت نفعت الفلسطينيين الذين نصفهم دكاترة". إن المجتمع\ الشعب والسلطة أو الهيئة المُسيرة يريدون الآن إن يتم تكريس كل شيء لخدمة للقضية الوطنية والتحرير وضمان الاستمرارية؛ أي أن أي ثقافة، علم، إبداع، مال، مجهود لا يخدم القضية الوطنية والتحرير هي ثقافة فيها "فظمة". إن نظرة مثل هذه تجعل المثقف نفسه يظن أنه فعلا غير صالح الآن؛ أي انه، من جهة، يتعرض لدمار الخيبة النفسي والكبت لتوهمه إن لا دور له الآن، ومن جهة أخرى يتعرض لهجوم مباشر من طرف مجتمعه وسلطته.
3-) بعض المثقفين أيضا أو من يُحسبون عليهم أو من يتوهمون أنهم منهم وقعوا في الفخ الذي أراده لهم المتناكفون معهم. أي أن الكثير من المتعلمين\ المثقفين تعالَوْا على العمل في المؤسسات التحية المتواضعة الهشة وعلى التوغل في شرايين المجتمع\ الشعب. فالآن من النادر ( النادر هنا لا تعني النفي بالمطلق) أن تجد مثقفا أو صاحب شهادة ليسانس مثلا يُدرس في مدرسة ابتدائية أو يعمل في مخيم أو في إدارة تسيير.
إن الاستراتيجية المتبعة الآن في واقعنا هي تكوين إطارت متعلمة تخدم البنية التحتية للمجتمع، وليس تكوين دكاترة وفلاسفة وأساتذة جامعيين لا توجد لهم وظيفة في الوقت الراهن. صحيح قد يكون ذلك خطأ سندفع ثمنه مستقبلا، لكن هذه هي الاستراتيجية الآن قبلنا بذلك أم لم نقبل. إن الذي يريده الصحراويون الآن حسب ما يظنونه صحيحا هو إطارات بسيطة تجمع بين الوعي، التنظير والعمل في آن معا من أجل التحرير أولا، والمحافظة على الاستمرارية ثانيا، لكن رغم ذلك إذا أستطاع احد ما أن يتسلل ويخرج عن هذه الاستراتيجية فلا يوجد من يمنعه.
المناورة بين البقاء على خط التماس والهامش
إن بعض \مجموعة كبيرة من الذين تثقفوا أو تعلموا وعادوا إلى مجتمعهم الصحراوي، وأذهانهم مثقلة بألف حلم وحلم ملون- قد يكون في ذلك مبالغ- صُدموا بحقيقة الواقع العاري وبصعوبة قدرتهم على تحقيقهم لأحلامهم المجردة فيه. إنها صدمة من الصعب تقبلها أو تحَمُّل وقعها: الوطن لم يتحرر واللجوء ببساطته وصعوبته هو الوطن الآن. ما العمل إذن؟ لا توجد مؤسسات تمتص المثقفين أو تلبي لهم أحلامهم أو بعضها؛ لا توجد استراتيجية شاملة مدروسة لاستيعاب هذه الطاقة المتعلمة\ المثقفة وترويضها كي تتم الاستفادة منها مستقبلا، وبكلمة واحدة لا يوجد شيء في اللجوء مما يشبع طموحا واحدا ولو صغيرا للمثقف الإنسان. ضف إلى هذا وذاك أن المثقف ككائن بشري يحس بالانكسار المعنوي والخيبة لو يرضى بدون ما حلم به وما صوَّرته له الثقافة والجامعة. إن خيبة أحلام المثقفين\ المتعلمين أمام صخرة واقع مثل واقعنا جعلتهم يتشتتون ككتلة مثقفة قوية لها سلطة، تصور مشترك ونظرة موحدة للواقع تضغط بها لتغيير الواقع إذا كانت تصبو إلى ذلك. لقد بدأ كل منهم يحاول على حدة، بطرق شتى، إن يبني استراتيجيته الخاصة التي يظن أنها هي الأرجح لهذه المرحلة الصعبة( اللجوء). ففريق منهم رأى أنه من الأفضل التمفصل والتموقع في المؤسسات الوطنية ليصبح – معتمدا على شهادته-واحدا من الهيئة المُسيرة للدولة، ويحصل على صفة إطار رغم عدم اتفاقه، ولو ضمنيا، مع الجيل الذي لازال يُسير الدولة الصحراوية ومؤسساتها. إن هذا النوع هو المرحب به في المجتمع، وهو الذي تقبلته السلطة عندنا ورحبت به وفتحت له أذرعها، لتوحي لنفسها ولمنتقديها أن هناك تشبيب مثقف داخل الهيئة المُسيرة.. فريق آخر بدأ يناور مع الواقع ومع الحال فلا هو تمفصل وتموقع في المؤسسة والوطنية، لعدم اقتناعه بطريقة التسيير، ولا هو بقى بعيدا عنها. أي أنه انتمى\ لم ينتمي للمؤسسة الوطنية والهيئة المُسيرة للدولة، وبقى قريبا\ بعيدا منها في انتظار فرصة ما من الفرص التي تأتي. أما فريق ثالث فقد رفض التمفصل والتموقع مع السلطة، وأعتبر أن المناورة لا تتفق مبادئه وسار في دروب شتى منها الهجرة إلى الخارج أو الهجرة إلى الذات والهامش. كل هذا كان يحصل في واقع اقتصادي يزداد شراسة يوما بعد يوم؛ واقع قد يفرض على الجميع، مثقفين أو غير مثقفين، التنازل عن الطموحات والأحلام والرضى بالبحث البسيط عن الخبز الحافي.
- غياب ثقافة سلطة المثقف
إن تحليلا ولو سريعا ومتسرعا بعض الشيء لوضع المثقف الصحراوي( نرضى بهذا الوصف وننسى الانتيليجنسيا) وعلاقته بمجتمعه\ شعبه وعلاقته بنوع السلطة القائمة وتعرضه للنيران الصديقة وبكثافة، والنقاش الدائر حول غيابه وغياب سلطته، يجعلنا نصل إلى نتيجة؛ نتيجة قد لا تكون هي كل النتيجة، لكن إن لم تكن كلها فبعضها أو جزء منها.
النتيجة أن المثقفين لم يفهموا – إن وُجدوا- رسالتهم وغير متأكدين من الدور الذي يجب إن يلعبوه. أو ربما، أكثر من ذلك وأخطر، أنهم أو بعضهم يتساءلون هل هم مثقفون أم لا.؟ إن المثقف هو الذي يقف مع مجتمعه\ شعبه في خندق واحد؛ خندق قد لا يكون حيزا جغرافياً، لكن خندق وجداني، خندق يعرف من خلاله كل ما يحصل في ابسط شرايين هذا المجتمع؛ خندق يستطيع أن يساهم من خلال التواجد فيه في التغيير. أن تواجد المثقف في وسط وقلب الحراك الحاصل في مجتمعه يتطلب منه أن يُكَوِّن سلطة خاصة به؛ سلطة ملموسة، محسوس بها من طرف السلطة المسيرة\ السياسية ومحسوس بها من طرف المجتمع أيضا. قد لا تكون هذه السلطة التي نتحدث عنها سلطة لديها مال ونفوذ ميداني، لكن سلطة معنوية موجودة. إن وجود سلطة للمثقف في المجتمع هو ضروري لإعطاء الشرعية للسلطة السياسية؛ فهذه الأخيرة حين لا ترى أي اثر للمثقف في وسط المجتمع تحس أنه ينقص شيء، وأن الوضع ليس على ما يرام. إن السلطة السياسية الحقيقية غير المزيفة التي تخدم شعبها لا مصالحها الخاصة هي التي تتصالح مع المثقف الحقيقي وتوفر له كل ما يلزمه كي يؤسس سلطته في المجتمع. فحين توجد سلطة للمثقف في مجتمعه\ شعبه، حتى لو كانت هذه السلطة معارضة ومتناكفة مع السلطة السياسية، فإن ذلك يعني إن الوضع بصفة عامة هو وضع صحي ويسير في الطريق الصحيح.
من جانبه المثقف عليه إن لا يكون مزيفا وغير شرعي حتى يحصل على شرعية أن تكون له سلطة في مجتمعه. فحين يحاول المثقف أن يجعل من ثقافته أداة يتمصلح بها على حساب المجتمع وعلى حساب دوره الطبيعي الرائد في الحياة فإنه، في هذه الحالة، يصبح هو والسياسي المتمصلح سيان في كل شيء: الانتهازية، خداع للمجتمع وذر الغبار في عينيه.
إن الموضوع – غياب المثقف وسلطته- مهم ويحتاج إلى أن يشارك الجميع في نقاشه.
السيد حمدي يحظيه
sidhamdi@yahoo.es

0 التعليقات:
إرسال تعليق