اول مجلة صحراوية مستقلة تأسست 1999

مجلة المستقبل الصحراوي

مجلة المستقبل الصحراوي

الشعر الشعبي الحساني : موطن ونشأة ، تطور ودور عبر الحياة

كتب بواسطة : futurosahara on 14‏/09‏/2011 | الأربعاء, سبتمبر 14, 2011


محمد حسنة الطالب
يعد الشعر الشعبي الحساني من أهم الفنون الأدبية التي عرفت بها بلاد البيظان ، أي بلاد الساقية الحمراء ، وبلاد شنقيط قبل غيرهما ، ولعل ما شهده هذا الصنف الأدبي من انتشار في بعض مناطق التماس والتلاقي مع بني حسان ، كان مرده إلى ما كانت تعرفه منطقة البيظان من عدم استقرار، سواء كان نتيجة للحروب والغزوات ، أو نتيجة لظروف الحياة ومتطلباتها.
لهذا ألقت حياة عدم الاستقرار هذه ، بالعديد من بني حسان إلى أماكن شتى خارج حدودهم الأصلية ، وكان منهم من آثر البقاء هناك ، وكان له دور كبير في نشر الشعر الشعبي الحساني خارج موطن نشأته ، إذ عرف هذا الأخير إنشادا وتداولا في الحدود الصحراوية مع كل من الجزائر والمغرب ، وكذا في بعض نقاط التماس بين موريتانيا وبعض دول الجوار كمالي والسنغال .
وعندما كانت القوافل التجارية تغدو وتروح بين بلاد البيظان وبين العديد من البلدان المجاورة ، كان الشعر الشعبي الحساني يزداد إقبالا وإعجابا ، ويتسع تذوقا وإنشادا ، حيث استأنس به الرحالة من البيظان في وصف وحكاية قصص ونوادر أسفارهم ، كما أعجب به من احتك بهم وخالطهم حتى شاركهم الذوق و النسب والملة .
تاريخيا تحدث غير واحد من الدارسين والباحثين سواء كانوا في موريتانيا أو في الصحراء الغربية عن أصول الشعر الحساني ونشأته وتطوره ، فهذا محمدن ولد سيد إبراهيم لم يتوصل ـ في اجتهاده وبحثه ـ إلى تحديد تاريخ نشأة الشعر الحساني ولا إلى معرفة متى دخل الى بلاد البيظان بالضبط ، ويقول الدكتور الموريتاني محمد المختار ولد أباه في كتابه (الشعر والشعراء في موربتانيا) إن أقدم صنف من أصناف الشعر الحساني موجود في ذلك الفن الذي يسمى ( أتهيدين ) ، دون أن يحدد بداية نشأة هذا الشعر بالتدقيق ولا كيف كان إبان دخول بني حسان الى بلاد البيظان ، وان كان الباحث نفسه قد أومأ الى أن الأزجال الشعبية قد دخلت صحراء صنهاجة مع دخول بني معقل إليها ، وهذا قد يكون ـ في نظر أحمد ولد حبيب الله الموريتاني ـ أقرب الى الحقيقة التاريخية ، لان هؤلاء العرب دخلوا الى منطقة البيظان في القرن الهجري السابع ، ويذهب الشيخ ولد مكي من موريتانيا أيضا الى أن ظهور أول نص حساني يعود الى القرن التاسع للهجرة .
ويقول الأديب الصحراوي الكبير بادي محمد سالم أنه من ضمن ما اطلع عليه من كتب وروايات عن الشعر الحساني لم يجد تاريخا محددا لنشأة أو بداية هذا الفن الأدبي لا سيما في منطقة الصحراء الغربية ، وبالتالي يرى أن كل ما يروج عن ولد أمريزيك وعلاقته بالشعر في بلاد الساقية الحمراء ، هو في رأيه مجرد أساطير يصعب تصديقها .
وبالرغم من هذا كله ، فان مسألة تحديد أولية أو نشأة الشعر الحساني تظل من أعوص الإشكاليات وأكثرها إثارة للجدل والنقاش والاختلاف ، ويستوجب الاقتراب منها بذل المزيد من المجهود والتعاون المثمر بين الباحثين والنقاد . ويبقى حال هذا الصنف الأدبي آنذاك وتطوره فيما بعد يثير التساؤل ، فكيف كان ؟ وما هي أوزانه و بحوره وأغراضه ، وهل كانت ترافقه موسيقى ، أم أنه ظل يتطور بمعزل عن الإيقاع ؟
إن حال الشعر الشعبي الحساني في بداياته ، كان كالصبي الحديث الولادة ، وبالتالي كان مجرد ظهوره آنذاك مكسب ، لابد من استثماره ليكون في مستوى التطلعات إلى وصف الأشياء بصدق وأمانة ، على أن تكون له القدرة أيضا على التعبير عن العاطفة ومختلف الأحاسيس الوجدانية ، وعلى البوح بمهارة وسلاسة عن خبايا النفس ومكنوناتها ، وهذا ما كان عاجزا عنه هذا الفن الحساني في الأطوار الأولى لنشأته عندما كانت خطواته الأولى تفتقد إلى التمعن والدراسة في كثير من الأحيان .
غير أن هذا الفن الأدبي و مع مرور الوقت ، تفتق وأثمر، فمن منثور مميز تعوزه الحبكة والبلاغة ، إلى منظوم مترنح بين تأثير العاطفة وتأرجح القاعدة ، إلى موزون مدروس ومقنن ، له أسسه وقواعده وأسلوبه الراقي ، ليصل بهذا الوضع الأخير إلى التنوع والحبكة ودقة البلاغة والمهارة في تناول مختلف الإغراض وشتى القضايا التي تهم الإنسان .
و بالنسبة لأوزان الشعر الشعبي الحساني فهي لا تخضع لتفعيلة معينة في حد ذاتها ، مثلما هو الحال في الشعر العربي ، لأن أساس البناء في الشعر الشعبي الحساني هو المتحركات التي تزيد أو تنقص حسب بحوره المختلفة ، هذا بالإضافة طبعا إلى القافية التي هي لازمة لا يمكن الاستغناء عنها بتاتا ، والتي يجب أن تكون موحدة في "التيفلواتن لولات" أي الاشطر الأولى من كل بيت ، وان اختلفت عن تلك الموحدة في "التيفلواتن التاليات" أي الاشطر الأخيرة من نفس البيت ، مع العلم أن "الكاف" أي البيت الشعري قد يكون رباعيا أو سداسيا ، أي قد يكون مكونا من أربع أو ست "تيفلواتن" أي أشطر ، وعلى هذا الأساس تبنى الطلعة أي القصيدة ، ويتضح للعارفين بهذا الفن بحرها من خلال "الكاف" الذي بنيت عليه ، أو حسب عدد المتحركات المعتمدة فيها ، كما تختلف قوافيها وأغراضها حسب رؤية "لمغني" أي الشاعر وقدرته ومهارته في الإبداع .
وجدير بالذكر هنا ما ينبغي أن تكون عليه بداية الطلعة التي تأتي دائما لتوضيح معاني ودلالات "الكاف" ، فبعد الكاف مباشرة تظهر أحمر الطلعة ، والتي هي عبارة عن القافية الموحدة للأ شطر الثلاثة الأولى من الطلعة أي القصيدة ، ليكون الشطر الرابع على قافية "الكاف" التي يجب أن تطبع بقية "أطلع" التي تأتي بمعنى هذا "الكاف" ، سواء كانت فرادى ، أو مثنى أو ثلاث أو رباع ، أي سواء كانت "طلعة" واحدة أو مجموعة "أطلع مظارات أعلى كاف" فقافية "الكاف المطلع" أي المراد تفسير مضمونه ، تكون دائما ملزمة للربط ، أو بمعنى آخر للحفاظ على صلة المعنى والوزن بين "الكاف والطلعة أو أطلع المظارات أعليه" .
ويتوفر الشعر الشعبي الحساني على عدة بحور أنجبتها التجربة المريرة لهذا الفن والتطور الحاصل عبر مسيرته مع موسيقى "أزوان" ، ونذكر منها لا الحصر هذه الأكثر شيوعا وتداولا في زمننا هذا:
ـ بعمران : وفيه يبنى "الكاف" أو البيت على سبعة متحركات ، تبدأ بمتحرك ثم ساكن ثم متحرك .
ـ مريميدة : وتتساوى مع بعمران من حيث عدد المتحركات ، لكنها تختلف عنه من حيث ترتيبها ، إذ تبدأ بمتحركين يليهما ساكن ، وقد تبدأ بساكن أحيانا .
ـ أصغير: ويبنى على سبعة متحركين في الشطر الأول ، وخمسة متحركين في الشطر الثاني ، ولا ينتهي إلا بسكون ، كما يشترط فيه أن يكون بعد كل خمسة متحركين سكون ، وأن يكون حرفه الثالث ساكنا أيضا .
ـ لبير : ويتشابه مع لبتيت تقريبا ، إلا أنه ينقص عنه بمتحرك واحد ، وهو ينظم بسبعة متحركات ، ويتميز شطره الأول بما يعرف في الحسانية "لحراش" أما شطره الثاني فهو "مسبول" أي سلس ، وهذه ميزة تميزه عن لبتيت .
ـ لبتيت : وهو نوعان :
~ لبتيت الناقص : وهو الذي ينظم بستة متحركات .
~ لبتيت التام : وينظم بثماني متحركات ، ويعد الأكثر سلاسة بين بحور الشعر الحساني لتعدد متحركاته ، وجاءت تجزئته إلى قسمين لأسباب موسيقية بحتة ، حيث ينقسم مقام لبتيت إلى "بيكي وأعظال" .
هذه هي أهم البحور وأكثرها تداولا في الشعر وتناولا في الغناء الحسانيين ، وهناك عدة بحور أخرى غير شائعة كبحر "التوتي والملخ وغيره " غير أن المسألة المثيرة في بحور الشعر الحساني هي عدم حصرها في عدد معين وهذا مازال الاختلاف بشأنه سائدا بين العارفين بهذا الفن الأدبي الحساني ، فهناك فريق يقول بأن عددها اثني عشر بحرا ، وهناك فريق ثاني يعددها في اثنين وثلاثين بحرا ، وهناك فريق ثالث يكاد يجزم بأن بحور الشعر الحساني أقل عددا من بحور الشعر العربي متحججا بتلك البحور التي هي قيد التداول باستمرار، وغير مقتنعا بتلك الغير متداولة والتي هي في نظره مجرد حبر على ورق .
أما بالنسبة لإغراض هذا الفن الأدبي ، فلقد وجد بنو حسان راحتهم في شعرهم الشعبي الذي قلما كان حافلا بأشعار مختلفة عن أخبار البادية ، وعن ظروف الحياة وما ينجر عنها من أفراح وأتراح ، إذ عرف البكاء على الإطلال ، ورثاء الأحبة والرفاق ، و قصص الغرام ، والتغني بالأمجاد والبطولات ، و أمداح النبي صلى الله عليه وسلم ، والإشادة بأصحاب البطولة ، والتنويه بخصال أهل الكرم ، وبالرأي السديد لأهل الحكمة والموعظة من أكابر الأمة ، ناهيك عما قد تتضمنه هذه الإشعار أيضا من نصح وتوجيه ديني وأخلاقي ، وذم وشتم في المقابل للظواهر والتصرفات المشينة ، هذا إضافة إلى المحاورة الشعرية ، و علاوة على نقل مختلف العلوم والتجارب الحياتية ، والتذكير بأساطير الأولين ، ومعالم الأرض ، وظواهر الفلك ، وكل ذلك كان بطريقة شاعرية تفي بالغرض و تساعد على سهولة الاستيعاب وزرع روح الدعابة و التسلية وإثراء الحديث بين المتتبعين لكل شاردة وواردة في هذا الفن الحساني المرغوب باستمرار من طرف "أجماعة البيظان" .
من هذا المضمون أو من هذا التناول لمختلف القضايا تتضح أغلب الأغراض التي طرقها الشعراء الحسا نيون بمعايشتهم لكل صنوف وظروف حياة البيظان وما مرت به من سعادة ورفاه ، ومن بؤس وحرمان ، ومن فضائل ومكارم ظلت تطغى على الدنايا والرذائل وعلى كل فعل شائن لا يتماشى وما يرسمونه من مزايا وتطلعات لتحقيق الأفضل ، وهو الشئ الذي تنهى عنه عاداتهم النبيلة وتنبذه تقاليدهم الأصيلة .
أما علاقة الشعر الحساني بالموسيقى ، فتلك مرحلة من مراحل تقدمه وازدهاره ، حيث أصبح من المعروف أن الشعر يدعى عند البيظان "لغنى" ، وتدعى الموسيقى "أزوان" ، بينما يدعى الغناء "الهول" ولهذا كان انسياب "لغنى" عند حكايته يحدث نوعا من التغني ، وهذا التغني الذي يبعث على التفاعل معه بطريقة عفوية أحدث موسيقى في الأذهان تتماشى والنبرات المنطوقة بأوزان الشعر بما فيه من متحركات وقوافي ، وهذا ما دعا إلى ضرورة إيجاد إيقاعات داعمة ليكتمل الذوق ويتجسد الإحساس ، ومن هنا جاء "أزوان" وحدث التناسب بينه وبين "لغنى" إذ أصبح كل بحر من بحور هذا الشعر الشعبي ينظم تماشيا مع مقام موسيقي أي مع "أظهر من أزوان" ، وأصبح على العارف بالشعر معرفة "أزوان" خصوصا إذا تعلق الأمر بإنشاد الشعر على الإيقاع ، أي حكاية "لغنى" على "أزاي" ، ونفس الشئ بالنسبة ل "اكيو" أي المطرب ، وهنا بالضبط بدأ التطور الملحوظ في الموسيقى الحسانية إلى جانب الشعر الشعبي ، إذ ابتكرت الآلات الموسيقية التي كان أولها "تيدينيت" و"آردين" فيما بعد ، لتتوالى آلات "آزوان" في الانتشار، إلى أن دخلت عليها بعض الآلات الحديثة فرافقتها في الإيقاع مثل القيثارة العادية والحديثة وغيرها من الأدوات الموسيقية التي أضفت على الموسيقى الحسانية زيادة وتنوعا في الإيقاع ، وحركت قرائحا كانت حبيسة الخمول والانطواء للعديد من المواهب الشعرية ، وكذا الحناجر أو الأصوات الغنائية .
و يبقى الشعر الشعبي الحساني دوما فنا رائجا بين البيظان ، يحفظ القيم النبيلة والتاريخ الزاخر بالمآثر والبطولات ، والحافل بأصدق الإيحاءات التي تنم عن هوية أصيلة و حضارة راقية بناها بنو حسان في بيئتهم الأصلية قبل أن تطال ريحها مناطق الجوار والتماس ، ليتناقلها الغير فيما بعد ربما تذوقا وإعجابا ، أو تقليدا ومحاكاة ، تأثرا بثقافة حسانية عريقة كلما مر زمان زادها مجدا وعزا لا سيما عند أهلها .
ولهذا حظي الشعر الشعبي الحساني باهتمام بالغ منذ زمن بعيد من طرف البيظان ، وذلك يعود إلى الدور الذي لعبه وما زال يلعبه في الإفصاح عن هموم الناس وانشغالاتهم بكل صنوف الحياة من معطيات ومتطلبات ، ومن آفاق و تطلعات إلى المستقبل المنشود ، ومن إرادة في التميز وحرص على الهوية والأصالة ، وهذا ما ظل ينشده الشعراء الحسا نيون ويرفه به شعرهم ويهدى إليه باستمرار بأسلوبه الراقي وببلاغته الدامغة ، وبمختلف أغراضه ومضامينه التي طرقت جل مناحي الحياة في بلاد البيظان وفي بعض تخومها .