اول مجلة صحراوية مستقلة تأسست 1999

مجلة المستقبل الصحراوي

مجلة المستقبل الصحراوي

البحث في الوقت الضائع / السيد حمدي يحظيه

كتب بواسطة : futurosahara on 20‏/07‏/2011 | الأربعاء, يوليو 20, 2011

 

قصة قصيرة

                                البحث في الوقت الضائع


الرسالة أمامها مطوية في انتظار وصول أحد ما ليقرأها لها.. هي تعرف فك الحروف وقراءتها بصعوبة، لكن لا تفهم معاني بعض الجمل الطويلة المعقدة. حسبت في أصابعها المدة التي قضاها الولد يدرس في كوبا.. " ذهب بعد استشهاد والده بخمس سنوات... مضت خمسة عشرة سنة الآن.. هو اليوم فوق العشرين."
أحست أول مرة أن العمر مر سريعا حقا، وأنه سرق منها ربيع الحياة، وأن النبض الذي كان يتدفق سيالا في دمها قد جف.. زوجها لم يبق منه معها سوى طفل واحد أو عبارة "استشهد في حرب التحرير"، أو بعض رياح الذكريات الغامضة التي تهب كلما نبض القلب بحب الحياة... سرق الزمن الحياة من دمها لحظة بلحظة. لم تفكر أبدا أن تتحقق نبوءة ولي صالح قال لها في صغرها "أن أول ولد لها سيولد في أرض تبيًض فيها الغربان."ا

* * * * * * * *

قرأ لها محمود، الشاب الذي درس وراء البحر مثلما يحلو لسكان مخيمنا تسميته، الرسالة القادمة من عند ابنها الذي يدرس في كوبا وراء سبعة بحار..في الرسالة قال لها ابنها " انه ملً، وأنه لا يستطيع أن يعيش في أرض تموت أسماكها في البحر من شدة البرد، ويتجمد البخار الذي يخرج من أفواه أهلها في الصباح" . وكتب لها أيضا أنه "عائد بمجرد أن يضع نقطة النهاية في أخر امتحان، وأنه إذا عاد فإن أول عمل سيقوم به هو البحث عن قبر والده كي يتعرف على مكانه شهيدا حين لم تمهله الحرب أن يتعرف عليه حيا." ولم ينس أن يخبرها أن والده يزوره دائما في الحلم لكن وجهه غير واضح الملامح."
ارتجف قلبها في صدرها بفعل العمل الغريب الذي ينوي ابنها القيام به. أول مرة تحس برجفة قوية مثل هذه في قلبها. عاشت في المخيم كل هذه المدة رغم شراسة الطبيعة والواقع وفساد المسئولين.. ظلت دائما تحيى بقوة نابعة من نفسها خلقها الاعتزاز بالعمل العظيم الذي قام به زوجها.. " استشهد في الحرب"، كلمة خليط من الحياة والموت، الفناء والخلود تلقى القبول من أهل المخيم الذين دفنوا مئات الشهداء.

***********

في اجتماع سكان المخيم قالت أنها تطلب من المسئولين أن يبحثوا عن قبور الشهداء ويجددونها خاصة أن أغلبهم دفن في أرض صحراوية تهيل عليها الرياح والرمال كل لحظة.. صفق الجميع لها احتراما لروج زوجها الشهيد، ولفكرتها التي تهدف إلى التذكير بالشهداء.. طرحت مشكلة البحث عن قبر زوجها على مسئول المخيم فأعطاها الحل في الحال.. كتب لها رسالة وقال لها: خذي هذه الرسالة وأذهبي إلى المكلف بملف الشهداء في الوزارة ليدلك على قبر زوجك."
سافرت وهي تحس أنها مسافرة – ليس من مكان إلى مكان- ولكن من زمن إلى أخر.. وضعت الرسالة على المكتب في انتظار الرد.. كان المكلف بملف الشهداء يبدو متواضعا ومحترما بسبب المهمة المكلف بها.." مكلف بملف الشهداء" وهو ملف مقدس في وجدان سكان المخيم.
قرأ الرجل الرسالة فتجمعت جيوش من الاستغراب والدهشة على صفحة وجهه وفي عينيه.
قال لها: أستطيع أن أعطيك التاريخ الذي استشهد فيه والمكان والمعركة.
قالت له: هذه المعلومات أنا أعرفها جيدا.
أعطاها رسالة وبعثها لمسئول اكبر منه بسبب عدم استطاعته حل مشكلتها.. قال لها المسئول الآخر: لكن لماذا تبحثين عن قبره بالضبط.؟
قالت: أريد أن أعرف مكان قبره ويعرفه ابني ليتذكره ويزوره في المستقبل.
أعطوها سيارة وبعثوا معها مرافقين يعرفون الأرض معرفتهم لأكف أيديهم. .. في المكان الذي ذهبوا إليه لم يبق هناك شيء ما عدا حفر عميقة خلفتها القنابل ولم تستطيع الرياح أن تطمرها.. لا توجد قبور ولا نصب ولا أي شيء.. لم يستطيعوا الاهتداء إليه بسبب خشونة الطبيعة التي لا ترحم..
عادت لخيمتها...
قال لها الترية، الرجل الذي لا تفارقه بذلته العسكرية حتى بعد نهاية الحرب: لا يستطيع أن يدلك على قبره سوى أصدقائه.
في لحظات قليلة تذكرت أن الكثير من الرجال زارها بعد استشهاد زوجها، وأن البعض منهم أدعى أنه شارك معه في المعركة التي استشهد فيها ليربط نفسه به وبالبطولة والشجاعة والتاريخ..
البعض قال لها يومها: احرق وحده عشرة دبابات.. رأيته بعيني هاتين يطلق النار على جيش العدو حتى فرق شمله.
قال لها رجل أخر: أصابته قذيفة فسقط قريبا مني. حملته بين يدي حتى واريته التراب.
قال لها ثالث: دفناه قل المغيب بملابسه. لم نغسله أو نكفنه، لكن المعجزة أن قبره كان محفورا بفعل قوة خفية كأنما كان ينتظر صاحبه بصفاته وقامته وعرضه وطوله.
لا زالت تتذكر وجوههم ولا زالت كلماتهم المضيئة، بفعل سحرها، محفورة في ذاكرتها كأنما سمعتها ليلة البارحة أو أول أمس فقط..
سألت عنهم فقيل لها: أولئك هم الرجال.. ذكرهم الله بخير. انتهى دورهم بنهاية الحرب، ولا أحد يعرف عنهم اي شيء الآن.          
" انتهى دورهم" صعد خيالها مع الكلمة الرهيبة التي تختصر خارطة الجرح حتى وصل إلى حدود الماضي والحاضر والمستقبل وتخوم اللا معقول.
راحت تبحث عنهم واحدا واحدا.
سألت عن أحدهم فقال لها رجل: أنت تسألين عن رجل لم يعد أحد يسأل عنه. كان يقول أنه يستطيع أن يهزم جيش أمريكا وحده. لا أعرف أين هو الآن.!!!
لكن اين هو الآن من خارطة الجرح الواسعة مثل الصحراء..؟ سألت رجلا يجلس على كرسي ينظر إلى الشمس فلم يجبها..قال لها الأطفال: أنه شبه ميت منذ زمن ولا يتكلم رغم ان عينيه مفتوحتين. كان مقاتلا شجاعا.
سألت عن الرجل الذي قال لها أنه دفن زوجها بيده فقال لها رجل في سوق الطوب: أنا اعرف مكانه ولكنه لا يريد أحدا أن يتصل به.
قالت له المرأة: من فضلك قل له إنني زوجة صديقه الشهيد الذي دفنه بيده.
قال لها التاجر وهو منهمك في عد أوراق النقود: أي أصدقائه الشهداء.؟ قال لي أنه دفن بيده أكثر من مئة شهيد.
سألت رجالا آخرين عن مكان قبر زوجها، لكن أحدهم فقد الذاكرة والآخر صار أصما فلم يفهما. قال لها البعض: قد لا يكون دفن في المكان الذي استشهد فيه. ربما حملوه ودفنوه في مكان أخر.. منهم من قال لها، أنه ربما يكون جرح وحملوه فاستشهد في الطريق ودفنوه في الظلام في مكان ما مجهول..
عادت تطوي صدرها على حزن هائل.. الرمل بلا ذاكرة والريح تعوي في الصحراء تسخر من بحثها عنه. الناس ذاكرتهم مشتتة، متصدعة، تكاد تكون فارغة تماما..لم تجد له أثرا في الذاكرة ولا قبرا فوق الأرض التي استشهد من أجلها.. خيل إليها أن ذاكرة الناس صارت مليئة بالغبار والتبن..
في اجتماع المخيم سألت الناس: كيف سأجيب إبني إذا عاد وسأل عن مكان قبر والده.؟
أخذ مسئول المخيم الميكروفون وقال لها: قولي له أن والده دفن في أرض الوطن. إذا عاد أبنك قولي له أن يصلي في أي مكان من الوطن فهناك يوجد قبر والده أو توجد بصمات بطولته..
لم تفهم أي شيء.. انتهى الزمن بالنسبة لها... راحت تتفرج على المشهد الذي رسمه السكان أثناء تفرقهم من الاجتماع في اتجاهات مختلفة، بينما كانت الريح تهب وتسير بقوة في اتجاه واحد...
 

0 التعليقات: