اول مجلة صحراوية مستقلة تأسست 1999

مجلة المستقبل الصحراوي

مجلة المستقبل الصحراوي

سيدي...قصة رجل عظيم لم تنصفه الحياة!

كتب بواسطة : futurosahara on 19‏/10‏/2014 | الأحد, أكتوبر 19, 2014

بقلم : أنخيلا كاريو ألفاريث.
ترجمة: المحفوظ محمد لمين بشري
منذ حوالي 18 سنة تعرفت على شخص لم أنساه و أتمنى أن لا أنساه أبدا، كان ذلك فجر أحد الأيام في مطار مدينة "إلتشي" (أليكانتي)، في إحدى تلك الليالي الطويلة التي كنا ننتظر فيها إستقبال الأطفال الصحراويين ، في ذلك الوقت كان ما يقارب 50 طفلا يقضون الصيف في "إلتشي"، و كان ذلك يقتضي أن يرافق الأطفال بعض البالغين يأتون كمشرفين، في المطار رأينا المشرفين ينزلون تباعا إلا أن واحدا منهم كان يلفت الإنتباه ، كان رجلا طويلا كانت قامته تتجاوز المترين و ذو نظرات ثاقبة، من خلال سماته كانت أثار الظلم و القسوة بادية على محياه ، كانت ملامحه العربية بالإضافة قامته الطويلة و شاربه الكثيف كلها أسباب كافية لكي لا يمر سيدي هكذا كغيره من دون أن يتمعن فيه الجميع بتركيز.
بعد أن تم الإنتهاء من توزيع الأطفال على عائلاتهم كل حسب جهته، كان سيدي من بين المشرفين الذين تم تعيينهم للبقاء في "إلتشي" ، الجميع متعب بعد يوم شاق و ليلة لم يغمض لنا فيها جفن، إقترب سيدي مني و سألني: " هل أنت هي من يتولى زمام الأمور هنا؟" أجبته أن ذلك يبقى حسب المجال الذي يسأل عنه! علي أن أعترف أنني في البداية إعتقدت أن هذا الرجل سوف يعكر علينا الصائفة! قال لي: " لقد أتيت هنا من أجل غرض وحيد... اتيت من أجل رؤية إبنتي التي لم أرها منذ 7 سنوات"
سألته: " و أين هي إبتك" أجاب أنها في "غرناطة" و أنها إضطرت للبقاء مع عائلة إسبانية بسبب مرض كانت تعاني منه، قال بلهف : " إني أشتاق إلى رؤية إبنتي "السنَية" من جديد!" .
بعدها ذهب المشرفون إلى الدار التي كنا قد قمنا بتحضيرها خصيصا لهم، و ذهبنا نحن بدورنا لأخذ قسط من الراحة، في اليوم الموالي ذهبت لزيارتهم و الإطمئنان على حالهم و التأكد من ما إذا كان ينقصهم شي، الشيء الوحيد الذي كان ينقص سيدي هو رؤية فلذة كبده، بدأت أتمعن و أرى أن خلف ذلك الرجل القوي و المقاتل الشهم.. كان هنالك أب يشتاق و يحن إلى رؤية إبنته، و أن ذلك الأب "الطويل" لن يرتاح حتى يتمكن من إحتضانها.
كنت دائما ما أحبذ حل المشاكل في أسرع وقت ممكن لذلك أخذت زمام الؤمور وبدأت العمل للبحث عن الحل الأنسب، قمت بإستخدام الهاتف الذي عادة ما نضعه تحت خدمة المشرفين، قمنا بالاتصال بالعائلة التي تحتضن "السنية"، كانت السيدة تدعى "كيكا"، لم يكن سيدي يجيد الحديث بالإسبانية إلا أنه كان يفهم كل ما يسمع لذلك فقد كنت ألعب دور الوسيط في المكالمات مع عائلة إبنته و لذلك كان يتوقف علي القيام بالترجمة و لكن كذلك بالوساطة من أجل الؤصول إلى حل للقضية. عندما قمنا بالاتصال بالعائلة لمست عداء و كراهية ، أخبرونا أنه يمكن للبنت أن تتحدث مع والدها في الهاتف إلا أن إمكانية أن يلتقيا أمر مستحيل، كانت الحجة أنه على "السنية" مواصلة عملية العلاج و أن لديها العديد من المواعيد الطبية إضافة إلى أنه لدينا حفل زفاف و هي من سيقوم بحمل "خواتم العريسين" إلى غير ذلك من الإلتزامات التي بحسبهم تحول دون أن تلتقي السنية بوالدها.
كان هدف سيدي الأول و سبب مجيئه هو أن يتمكن من معانقة إبنته، و كانت الأيام و الأسابيع تمضي دون أن يتمكن من ذلك، كان يريد معرفة حالها و هل هي سعيدة أم لا هل تعتني بها العائلة أم لا، ثم يرجع بعد ذلك مع أنه متأكد أنه قد تمضي 7 سنوات أخرى أو أكثر دون أن يتمكن من رؤيتها.
بعد مرور شهر كامل من المماطلات و الأعذار الواهية، تحدثت إلى سيدي و أخبرته أنني أرى من الصعب جدا أن تقبل العائلة بلقائك بإبنتك. فكر سيدي في الأمر ثم طلب منا أن نرافقه إلى المدينة التي تتواجد بها إبنته ، عندها لم يعد سيدي يكتفي بلقاء إبنته و إحتضانها فحسب بل أصبح يطمح في أن تقضي معه الفترة المتبقية من عطلته (حوالي 4 أسابيع)، و هذا بالفعل ما أخبرنا به العائلة التي تتواجد معها السنية و التي عبرت عن رفضها القاطع للأمر، كان سيدي عازما على تنفيذ ما يريد... حتى أنه قام بحلق شاربه و شراء سروال "جينز" لكي يبدو في عين إبنته أكثر شبابا، لا زلت أتذكره فتفيض عيناي من الدمع!!.
كان سيدي يحاول التعامل بلطف بالرغم أنه كان يتعامل مع من أصبح يعد نفسه "مالكا" لإبنته العزيزة السنية ، كانت العائلة بصدد الرفض، أخبرتهم بأن الأمر لا يستدعي كل هذا التعقيد، و أنه يتعلق بأب يريد أن يرى إبنته بجانبه لمدة أسابيع، و أنهم إذا لم يتفهموا الأمر بهذه الطريقة فإننا سنتصل ب "الحرس المدني" لكي يتدخلوا لحل المشكل... عندها فقط تحول سلوك العائلة، قامت بتحضير حقيبة ملأتها ببعض إحتياجات الطفلة، ثم قمنا بعدها بالعودة إلى " إلتشي" و بصحبتنا الصغيرة السنية.
4 أسابيع فقط هي الفترة التي سيقضيها سيدي مع إبنته، لم تشأ السنية معانقة والدها بالرغم من كل الجهودات التي قمنا بها لإقناعها أنه جاء لإسبانيا لهذا الغرض وحده، كان سيدي هادئا طوال الوقت و كانت الإبتسامة لا تفارق محياه ، كان يطلب منا أن لا نضايق الصغيرة ...
كانت الأيام و الأسابيع تمضي، إلأ أن التقارب كان يبدوا مستحيلا، كانت السنية تعاتب أبوها لعدم إتقانه للغة الإسبانية ، تقول له أنها درست كثيرا و لم يعد بإمكانها تعلم العربية ، و أنها تحب الفنان "ريكي مارتين"، كما أنها لا تحب العرب....إلخ، لقد حولوا الصغيرة السنية إلى إنسان بلا قيمة.
قمنا بإجراء جميع الفحوصات الطبية للسنية، و كانت النتيجة أنها سليمة و معافاة و لا تعاني من أي مرض، كان كل شيئ عبارة عن كذب و تلفيق، لقد قامت تلك العائلة بتركيب كل شيئ من أجل أن تبقي على الطفلة معها، عندها قرر سيدي أن يعود بإبنته إلى المخيمات و أخبرنا أنه لا يريد أن يخسر إبنته بتركها في مجتمع يعرفه جيدا.
قال لي: " أنا لا أملك شي أنخيلا! لا شيئ!... فقط لدي عائلتي و أبنائي و مستعد لأقدم حياتي من أجلهم..فقط أريد لهم الأفضل ، يمكن أن أتركهم في إسبانيا إذا كان ذلك من أجل صحتهم أو مستقبلهم، و لكن يجب أن لا ننسى أصلنا و جذورنا، ،إذا أنت نسيت من تكون و من أين أتيت فلا شيئ يمكن أن يعوض ذلك! ، تحدثنا مع العائلة و بالرغم من إصرارها على أن لا تذهب السنية إلا أن الأمر إنتهى بالصغيرة ترافق والدها إلى المخيمات.
إلتقيت بسيدي بعدها مرات عديدة في المخيمات، تعلمت السنية لغتها و عاشت في أحضان عائلتها لأكثر من ستة سنوات ، و بعد أن كبرت و تجاوزت سن البلوغ طلبت من والدها أن يأذن لها بالذهاب لزيارة عائلتها الإسبانية، وافق الأب إعتقادا منه أن كل من السنية و العائلة في إسبانيا قد قبلوا بالواقع.
في شهر نوفمبر الماضي عندما كنا في "مظاهرات مدريد" تفاجأت بصوت خلفي ينادي "أنخيلا" "أنخيلا"، كان ذلك صوت سيدي! و لكم أن تتصورا كم كانت فرحتي كبيرة بلقائه!! سألته عن إبنته السنية فأجابني أنه لا يعرف أي شيء عنها "ذهبت إلى المدينة التي تسكن فيها مع العائلة الاسبانية في غرناطة إلا أنهم منعوني من رؤيتها" .. أخبروني أنها أصبحت إمرأة بالغة و إذا واصلت في الإصرار على رؤيتها سنكون نحن من سيتصل هذه المرة بالحرس المدني!!
"لدى السنية الأن حوالي 30 سنة و لا نعرف أي تفاصيل عن حياتها، أنخيلا لا أعرف ما إذا كانت حية أم ميتة ، هل لديها أبناء... هل درست.. لا شيء على الإطلاق!! "
طلب مني أن أساعده و أنه يريد أن يعرف ماذا حل بإبنته، و أنه يريد الحديث معها و لو هاتفيا... كم صعبة و غير منصفة هي الحياة أحيانا!!!