بقلم : محمد لبات مصطفى
حيرني أمر الحاكم العربي، الذي لا يجد حرجا في التدخل، في أدق تفاصيل شؤون حياة شعبه العامة والخاصة. حتى انه يستطيع تعديل دستور بلاده، في جلسة تهريج واحدة ؟ تزكيها طوابير من المتملقين وصغار النفوس؟ وأصحاب الأغراض الخاصة الذين يتصاغرون من حوله.
أدهشني الحاكم العربي الواحد الأحد..اللهمّ لا حسد.. بوجهه المألوف وأحيانا الملفوف، والذي لا ينقطع حديثه عن الديمقراطية على مستوى الخطاب الرسمي، بينما ينتهكها ويغتالها في الممارسة التطبيقيه. حين يحرص على عدم تقنين الحياة السياسية في بلاده؟؟؟ ليضمن بقاءه في سدة الحكم لأطول مدة ممكنة؟ قد تشرف على الأربعين عاما ولا أبا لك يسأم؟ على رأي الشاعر زهير ابن ابي سلمى.
حاكمنا، وحيد زمانه.. الذي لم تنجب حواء العربية مثله.. يريد لكل المخلوقات من حوله، العيش في وهم بأنه هو الوطن. وأن الوطن هو نفسه. وحتى يظل كل شئء وسيلة ضغط بين يديه.. وتحت تصرفه التام. لا رقيب عليه، ولا رادع له. أهوائه هي قانونه، ورغباته هي دستوره. فانه يلجأ ـ الحاكم ـ في أحسن الأحوال الى سن "قوانين" مفصلة على الطراز والمقاس المطلوبين، يستند اليها عند الحاجة ـ هذه نعرفها وهذه ما نعرفها ـ مما يعكس عقلية الازدواجية و الهيمنه المطلقة لشخصه.
الحاكم العربي يتصرف حيال شعبه كتصرف الأب مع بناته و أبناءه.. وهذا التداخل بين دور "رب الأسرة" و "رب المقلة" هو الذي يفضي لا محالة إلى الاستبداد، استناداً إلى واجب الطاعة المفروض على الأبناء تجاه الأب الزعيم، أو رجل الاجماع.. الى غير ذلك من التسميات..؟ انه لعمري تشويه وقح لمعنى وحق المواطنة من حيث كونها، علاقة بين المواطنين من جهة، و بين من اختاروهم لتسيير شأنهم العام من جهة ثانية، في تعاقد خال من الاذعان والرضوخ.
الحاكم العربي "الديمقراطي" الذي يخاطب أحيانا شعبه بسفاهة مستفزة، تستوجب الحجر على صاحبها، هو ذاته الذي يناشد فيهم "الحس الوطني".. وشركاءه الآخرين في الحكم لا ينظر اليهم سوى انهم حلفاء وقتيون، سيتحولون إلى أعداء غدا أو بعد غد، إن لم يؤمنوا ويقروا بوحدانية الزعيم الواحد الأحد.. اللهمّ لا حسد.
كل ذلك يحصل بإسم الحفاظ على المصلحة العامة.. وبرأي واحد لا يريهم الا ما يرى.. وبلحن واحد هو "لحن الكرسي". انه نظام الشخص الواحد، الذي يتحول فيه الاستحقاق الانتخابي الى استفتاء حول شخصه، كمرشح وحيد، ينال ثقة الشعب بما قد يصل الى نسبة التسعة والتسعين في المائة.
الحيرة والارتباك يزدادان حينما نشاهد شوارع مدننا العربية، امتلأت بحشود بشريه بحت حناجرها، تخرج تأييدا لهذا الصنف من الزعماء أوالرؤساء أوالقادة أو غيرهم من تنويعات الألقاب التي تطلق على سادة نظمنا العربية المختلفة.
شوارع القاهرة ازدحمت بالمصريين، الذين هتفوا لحسني مبارك قبل حركة 25 يناير. نصف مليون ليبي احتشدو في باب العزيزية، وآخرين في الساحة الخضراء سابقا بطرابلس. حشود يمنية مافتئت تخرج امام قصر الرئاسة اليمني بصنعاء، تطلق الأهازيج فرحا بأية "مبشرات تطمينية" على صحة علي عبدالله صالح، قبل عودته من العربية السعودية.
سبحان الله " حَوًسْ تًفْهمْ تًهْبلْ " على رأي المثل الجزائري )بطاطا خارجة بطاطا داخلة( جماهير تهتف بحياة الحاكم وتمجده، بما من به على شعبه، من نعمة "الديمقراطية" والأمن والأمان.
تلك الجماهير قد تكون هي ذاتها، التي ستخرج في اليوم الموالي، لتلعن وتدين "العهد البائد" للنظام الساقط أو الآيل للسقوط؟. فهل الحاكم يصدق فعلا مظاهرات التأييد التي تخرج بأمره في بعض أقطارنا العربية؟.
وهل مظاهر الرياء، وأهازيج النفاق، وحرارة التصفيق، والزغاريد.. مؤشر حقيقي لدعم سلطة المرشح الوحيد، والرضا عن سياساته في اقطار أخرى..؟ وحتى العديد ممن تراهم يعبرون عن ضجرهم وسخطهم في محيطهم الضيق، مما آلت اليه الأوضاع في البلاد ، سرعان ما ينقلبون إلى مداحين لمن بيده خيوط لعبة الحكم؟ وكلما ازداد المدح والإطراء أصبح النقد بمثابة الجريمة وخروج عن الشرعيه..؟؟ أي انفصام هذا؟
لقد تنبهت الشعوب القادرة والمنظمة والمحترمة، مبكرا الى تلك الاشكالية، فكبحت جماج الاستبداد بالديمقراطية والمساواة، ووضعت نظاما شفافا للانتخابات، لا يجيز مطلقا للزعيم أوالقائد أو الرئيس أو..أو.. ان يترشح اكثر من عهدتين مهما بلغت عظمته، وذكاءه.. وحنكته.. وقيادته..وماضيه.. وحاجة الشعب اليه.. وفيما يتعلق بوضعنا، وحتى عهد قريب وبقناعات يجري نسيانها الآن؟؟ كنا نشاهد بالعين المجردة، كيف كانت المناضلات والمناضلين يذرفون الدموع ـ دموع حقيقية ـ ويتوسلون اعفاءهم من أوزار المسؤولية، التي كانت همٌا دائمٌا.. ووعيا قائما.. ومصدرا دائما للإبداع والتميز.. سنده الفكر والمبادئ الكبرى الحابلة بثقافة التضحية..
واليوم انعكست الآية فأصبحنا نشاهد "القوم" يكيفون بعض الوقائع على هواهم الجديد.. ويبرمجون عقولهم من جديد وسط تفاؤل مبالغ فيه، وانفعال وتجييش عاطفي، عشناه على هامش مؤتمرنا الشعبي العام يرافقه تهريج يغيب منه العقل و" تتبارز" فيه النساء بكامل زينتهن الى "محفل المسؤولية" كمن يزف الى "خيمة الرك"..؟ والحال هذه فلا يسعنا الا ان نضع ايدينا على قلوبنا خوفا من أن تكتئب احداهن في ليلة فشل عاطفي لئلا أن ندفع نحن المواطنين الثمن..
إن أحدا لا ينبغي عليه أن ينكر دور المرأة الصحراوية الى جانب أخيها الرجل في الحرب كما في السلم، وان كان لابد من ذكر أسماء فان الشهيدة سيدمي خير مثال على ما أقول.
لكن ما أريد قوله: لماذا نطبل ونزمر بانحياز مكشوف لبعضهن، و"نصعدهن" على طريقة المؤتمرات الشعبية الليبية؟؟ رغم تقصيرهن وفشلهن في مهامهن..؟ أوَ ليس الجزاء من صنف العمل؟ انه أسلوب "مفهوم " اعتدناه منذ سنوات في بلادنا، لأن السياسة العامة، تُبعدْ وتقرب حسب الولاء والزلفى، وذلك مثال جيد على فوبيا الخوف من الكراسي وعلى الكراسي؟.
لماذا تبدو أمامنا اليوم صورة الاطارات ـ حتى لا نقول القيادات ـ شاحبة مترهلة ضعيفة، تتوسل البقاء في السلطة.. في الوقت الذي كان ينبغي لها أن تتصدر المشهد بخطاب وصوت مسموعين للرأي العام الوطني، لمجابهة ملفات الواقع الحقيقي المتراكمة.. بالتفاني والتضحية والمصداقية..
إنها صورة الانتماء الغائب.. والأنانية المفرطة.. والتفريط.. وانتهاز الفرص.. والعض على الكراسي بالنواجد.. واللا مسؤولية.. وموت الضمائر.. وغياب القدوة والأخلاق.. التي فرخت مظاهر الضعف.. وتراكمات الاستقواء، والتعالي والاستفراد بالقرار، والتوظيف اللا مسؤول للسلطة.. وشتى صور التراجع والعطالة التاريخية..
هل هذا هو النموذج الأخلاقي والسلوكي، الذي يجب أن يتناسب مع جلال ثورة عنوانها الحرية والاستقلال والكرامة، سقط من أجلها أعز من انجبتهم حواء الصحراوية. لماذا تراجعت روح التضامن.. والروح الرفاقية التي أفرزتها سنوات من النضال والكفاح تحت راية وحدة الهدف، والمصير المشترك. كيف تحولت مؤتمراتنا العامة إلي صراعات وخلافات وحتى جلسات نميمة؟.
الخشية كل الخشية في هذا الزحام الجديد، أن تضيع استحقاقات المشروع الوطني الصحراوي الذي دفع ولا يزال الصحراويون من أجله ثمنا لا يتخيله العقل ولا يتصوره المنطق ولا يخطر ببال..
لاحصانة ولا قداسة ولا أفضلية ولا إستثناء لغير الشعب الصحراوي، القائد الأوحد والزعيم الخالد، لا قداسة للأحياء وكل ما يتصل بهم أو يصدر عنهم في منعرجات السياسة وأوحالها، لا لاضفاء العصمة على سياسات واجتهادات وآراء الأحياء.
سوف نحتاج زمنا حتي يستعيد العقل الصحراوي صحوته، ويستعيد الوعي الوطني ثوابته القديمة، حين كانت الصحراء في ضمير قادتها تسبق كل شيء فيه.. حين كانت الجبهة الشعبية تنظيما طلائعيا يهابه العدو ويحترمه الصديق..